صلاح رشاد .. يكتب: الملك العضوض والأثمان الباهظة (39)
عيسي بن موسي .. سيف بني العباس
تخلص أبو جعفر المنصور من أخطر أعدائه بالجرأة والمبادرة وليس بالقوة لأن موقف أبي مسلم علي الأرض كان قويا جدا، ومعه 3 آلاف من أخلص رجاله، أما المنصور فعندما عاد من رحلة الحج نزل مدينة المدائن العراقية بحاشيته والقليل من حرسه ما جعله يتعرض للوم في هذه الخطوة من جانب صاحب بيت أمواله، الفرج بن فضالة التنوخي، كما جاء في كتاب داهية العرب للمؤرخ العراقي عبدالجبار الجومرد.
انتقد التنوخي الطريقة التي قتل بها أبو جعفر عدوه أبا مسلم، فأمر المنصور بإحضاره وقال له: إني أعلم أنك صاحب رأي، وقد خدمت بني أمية زمناً، فكيف تخطئني بقتل أبي مسلم في قصري ولم تخطئ صاحبك عبد الملك بن مروان في قتل عمرو بن سعيد الأموي في قصره كما فعلت أنا؟.
فرد عليه الفرج ردا مقنعا فقال: يا أمير المؤمنين إن عبد الملك كان محاطاً باثني عشر ألفاً من جنده ومواليه حين قتل خصمه، وأنت قتلت أبا مسلم، وأنت في خرق من الأرض، وكل من حولك له ومنه وإليه، قال :صدقت، لكنني لم أخطئ في عملي!.
ولم يعترف المنصور بالخطأ لأن خطته نجحت وقد كان يتمثل دائما ببيت الشعر:
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة
فإن فساد الرأي أن تترددا .
كان المنصور شديد الإعتزاز بنفسه وقدراته الإدارية وملكاته العقلية حتي قال: معاوية بعمرو وعبد الملك بالحجاج وأنا بنفسي.
يري المنصور أن معاوية رضي الله عنه لم يصل إلي الخلافة إلا بدهاء عمرو بن العاص رضي الله عنه، وأن عبد الملك لم تستقر له الأمور إلا بسيف الحجاج، أما المنصور فقد وصل إلي غاياته وأهدافه بذكائه هو، بقدراته هو، بملكاته هو، متناسيا كل من قاموا بأدوار مهمة في طريق توطيد الملك والسلطان له!!
تناسي أن أبا مسلم الخراساني هو الذي هزم عمه عبد الله وأراحه من خصم قوي ومنافس شرس علي الخلافة، وتناسي أن ابن أخيه عيسي بن موسي هو الذي قضي علي ثورة العلويين بقيادة الأخوين محمد وابراهيم ابني عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي رضوان الله علي آل البيت أجمعين .. وأتي برأسي الأخوين إلي عمه المنصور.
(دماء العلويين بسيوف العباسيين، لادهشة في ذلك، فالملك العقيم يمزق الأرحام تمزيقا ويحولها إلي دماء وأشلاء !!! ولاحول ولا قوة إلا بالله )
الغريب والعجيب أن المنصور الذي لا يلين، بكي عندما رأي رأس ابراهيم بن عبدالله العلوي وضرب رجلا بحديدة لانه نال من ابن عمه القتيل، فالمنافقون جاهزون للتزلف للسلطان في كل وقت وحين، دون وازع من أخلاق أو ضمير، ولانقول دون وازع من دين لأن المنافقين لادين لهم.
لكن عندما دخل جعفر بن حنظلة المقرب من المنصور ورجل الحرب والسياسة لم يكن في حاجة إلي هذا التزلف الذي ينال من شخصيته وقال للمنصور: أعظم الله أجرك يا أمير المؤمنين في ابن عمك وغفر له ما فرط فيه من حقك فقال المنصور: أبا خالد مرحبا وأهلا ها هنا يعني إجلس بجواري.
فلما رأي المنافقون أن الترحم علي القتيل يرضي الخليفة سارعوا بالترحم عليه !!
لا يختلف اثنان علي أن أبا جعفر كان صاحب قدرات عقلية وإدارية فذة، لكن الاستهانة بأدوار من ساندوه تكشف عن جانب آخر في شخصية ذلك الرجل الجبار أنه لا يبالي بالمقربين منه والمخلصين له، إذا أصبحوا حجر عثرة في طريق تحقيق أهدافه وأنه سيتخلص منهم بأي وسيلة، حتي ولو كانت القتل ليضمن ملكا له ولأولاده لا ينازعهم فيه أحد ولايعكر عليهم صفوه أحد .
ونتحدث في سطور قليلة عن عيسي بن موسي ولي عهد المنصور وآخر الأعداء في قائمته.
كان عيسي في سن عمه أبي العباس السفاح وعندما مات والده مجاهدا في الإغارات الحدودية مع دولة الروم في عهد الأمويين كفله عمه إبراهيم الإمام فأحسن تربيته وتنشئته وزوجه ابنته أم حبيب، وكان ابراهيم الإمام قد تولي أمر الدعوة العباسية بعد موت أبيه محمد عام 125 هجريا فأطلع إبراهيم ابن اخيه عيسي علي أسرار دعوتهم ضمن أهل بيتهم.
عندما قامت دولتهم كان عيسي علي مشارف الثلاثين من عمره يتفجر شبابا وشجاعة وحسن تصرف في الأمور وكان فارس بني العباس وسيفهم المسلول، ولذلك جعله عمه السفاح ولي عهد أخيه المنصور الذي انتدبه لحرب الأخوين محمد وإبراهيم إبنَي عبد الله بن الحسن المثنى (وهما من البيت الحسني رضي الله عن آل البيت أجمعين)
فما هي الجائزة التي قدمها المنصور لابن أخيه وولي عهده بعد كل ما فعله من أجل استقرار الأمور لدولة بني العباس ؟
نجيب في الحلقة المقبلة إن شاء الله .